الصليب الأحمر اللبناني: مؤسسة إنسانية راسخة في خدمة الوطن والإنسان

يُعد الصليب الأحمر اللبناني أحد الركائز الأساسية للعمل الإنساني والإغاثي في لبنان، حيث امتدت خدماته على مدى أكثر من قرن من الزمن، مجسّداً مبادئ الحياد، وعدم التحيز، والاستقلالية، والإنسانية التي تقوم عليها الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. في بيئة معقدة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً مثل لبنان، برز الصليب الأحمر اللبناني كجهاز إنقاذي أول في البلاد، ليس فقط في أوقات الكوارث والحروب، بل أيضاً في العمل الوقائي، والرعاية الصحية، ونشر ثقافة السلام والإغاثة.

النشأة والتأسيس

تأسس الصليب الأحمر اللبناني في السابع من أيار عام 1945 كمؤسسة مستقلة غير حكومية ذات طابع تطوعي، وذلك بمبادرة من مجموعة من الأطباء والمواطنين اللبنانيين الذين كانوا يؤمنون بأهمية التنظيم المدني في مجال الإغاثة الطبية والإنسانية. وقد نال اعتراف الحكومة اللبنانية به كجمعية وطنية بموجب المرسوم رقم 7998 في عام 1964، وأصبح الممثل الرسمي الوحيد للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر في لبنان.

الصليب الأحمر اللبناني عضو في الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، ويعمل وفقاً لاتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الملحقة، ويشترك في التنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومع جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر حول العالم.

المبادئ الأساسية

تقوم أنشطة الصليب الأحمر اللبناني على المبادئ السبعة للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهي:

1. الإنسانية: حماية الحياة والصحة، وضمان احترام الإنسان.

2. الحياد: عدم الانحياز إلى أي طرف في النزاعات.

3. عدم التحيز: تقديم الخدمات لجميع الأشخاص دون تمييز ديني، عرقي، سياسي أو اجتماعي.

4. الاستقلال: الحفاظ على استقلال القرار في إدارة أعمال الجمعية.

5. الخدمة التطوعية: العمل الإنساني غير الربحي القائم على التطوع.

6. الوحدة: وجود جمعية واحدة في كل بلد مفتوحة أمام الجميع.

7. العالمية: التعاون المتبادل بين جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على مستوى العالم.

الهيكل التنظيمي

يتبع الصليب الأحمر اللبناني هيكلاً تنظيمياً متقدماً يشمل:

• اللجنة التنفيذية: تتألف من رئيس الجمعية وأعضاء منتخبين، وتقوم بالإشراف على تنفيذ السياسات العامة.

• المدير العام: يشرف على الأنشطة التنفيذية والإدارية اليومية.

• الفروع المحلية: 36 فرعاً موزعة في مختلف المناطق اللبنانية، تلعب دوراً مركزياً في تنفيذ الأنشطة الميدانية.

• الكوادر البشرية: يضم الصليب الأحمر اللبناني أكثر من 12,000 متطوع، وقرابة 400 موظف يعملون في قطاعات متعددة، مما يعزز كفاءة وانتشار الجمعية.

مجالات العمل والأنشطة

1. الإسعاف والطوارئ

تعد خدمة الإسعاف من أبرز وأقدم خدمات الصليب الأحمر اللبناني، حيث تمتلك الجمعية أكثر من 300 سيارة إسعاف موزعة في مختلف المناطق. وتستجيب سنوياً لأكثر من 600,000 نداء طوارئ، تتراوح بين حوادث السير، والنقل الطبي، والاستجابة للكوارث. يتم تدريب المسعفين على أعلى المعايير الدولية في الإسعاف الأولي، والإنعاش، والتعامل مع المصابين في حالات الحروب والانفجارات.

2. خدمات الدم

الصليب الأحمر اللبناني هو المزود الرئيسي للدم في لبنان. من خلال مراكز التبرع بالدم البالغ عددها 13 مركزاً، يتم جمع وفحص وتوزيع الدم ومشتقاته مجاناً للمستشفيات والمحتاجين. كما يتم تنظيم حملات توعية للتبرع بالدم باستمرار لتعزيز ثقافة التبرع الطوعي.

3. إدارة الكوارث

يمتلك الصليب الأحمر اللبناني وحدة متخصصة في إدارة الكوارث، تتعامل مع الزلازل، الفيضانات، الحرائق، والنزوح الداخلي، وتقوم بتوزيع المساعدات الغذائية، والبطانيات، ومواد النظافة، بالإضافة إلى تقديم الدعم النفسي الاجتماعي. يتم تفعيل خطط الطوارئ بالتنسيق مع الوزارات والمؤسسات المعنية، وتُعتبر استجابة الجمعية لانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 نموذجاً رائداً في العمل الميداني الفوري والمنظم.

4. الخدمات الطبية والاجتماعية

يوفر الصليب الأحمر اللبناني مجموعة من الخدمات الصحية والاجتماعية من خلال 14 مركزاً صحياً في مختلف المناطق اللبنانية، تتضمن:

• عيادات طبية عامة واختصاصية

• خدمات الأمومة والطفولة

• حملات تلقيح

• دعم نفسي اجتماعي

• برامج التغذية والرعاية المنزلية للمسنين

5. الصحة المجتمعية

تهدف برامج التوعية الصحية إلى تعزيز المعرفة والوقاية من الأمراض في المجتمع، خاصة في المناطق المهمشة. تشمل هذه البرامج مواضيع مثل الوقاية من الأمراض المزمنة، الصحة الإنجابية، النظافة العامة، والأمراض المنقولة جنسياً.

6. الشباب والتربية المدنية

يضم برنامج الشباب أكثر من 5,000 شاب وشابة يشاركون في أنشطة تثقيفية، تطوعية، وتنموية. تهدف هذه الأنشطة إلى تعزيز روح المواطنة، وقيم التسامح، والتفاهم بين فئات المجتمع. كما يتم تنظيم مخيمات صيفية، وورش عمل توعية، وأيام تطوعية بيئية واجتماعية.

دور الصليب الأحمر اللبناني في الأزمات اللبنانية

شهد لبنان العديد من الأزمات والكوارث، وكان الصليب الأحمر اللبناني دائماً في الصفوف الأمامية للاستجابة. من أبرز هذه الأزمات:

• الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990): اضطلع خلالها الصليب الأحمر بدور حاسم في نقل الجرحى والضحايا، وتأمين الإغاثة في ظروف بالغة الصعوبة.

• عدوان تموز 2006: شارك في إجلاء الجرحى والنازحين، وتقديم الدعم الطبي والمساعدات الإنسانية.

• الأزمة السورية والنزوح: دعم مئات آلاف النازحين السوريين في لبنان بخدمات الإغاثة والصحة.

• انفجار مرفأ بيروت (2020): قامت الجمعية بإطلاق واحدة من أكبر عمليات الاستجابة في تاريخها، حيث وفرت الإسعافات الأولية، نقل الجرحى، توزيع المواد الغذائية، والدعم النفسي للمتضررين.

جدول: مراكز الصليب الأحمر اللبناني حسب الخدمات المقدمة

التحديات التي تواجه الصليب الأحمر اللبناني

رغم جهوده الهائلة، يواجه الصليب الأحمر اللبناني مجموعة من التحديات أبرزها:

• الأزمة الاقتصادية والمالية: أدت إلى تراجع القدرة الشرائية للعملة الوطنية، وزيادة تكاليف التشغيل والصيانة، خصوصاً الوقود وقطع الغيار لسيارات الإسعاف.

• الهجرة ونقص الكوادر: يعاني من تسرب المتطوعين والكوادر المؤهلة بسبب الهجرة أو الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.

• الكوارث المتعددة والمتزامنة: تواجه الجمعية صعوبة في الاستجابة السريعة والمتوازنة في حال تعدد الأزمات، مثل جائحة كورونا والانفجار الاقتصادي.

• التمويل: يعتمد الصليب الأحمر اللبناني على التبرعات والهبات من الأفراد، المؤسسات، والجهات الدولية. ونظراً لانعدام التمويل الحكومي المباشر، فإن الجمعية تواجه صعوبات في تأمين الموارد اللازمة لضمان الاستدامة.

التمكين والتدريب

يعتبر التدريب جزءاً أساسياً من استراتيجية الصليب الأحمر اللبناني. حيث يتم تأهيل المتطوعين والعاملين عبر برامج مهنية معتمدة تشمل:

• الإسعاف الأولي والإنقاذ

• الإسعاف النفسي الأولي

• إدارة الكوارث

• الوقاية من العدوى ومكافحتها

• برامج العناية المجتمعية لكبار السن والمرضى

تُنفّذ هذه الدورات بالتعاون مع منظمات دولية ومراكز علمية، ما يعزز من مستوى الجاهزية والكفاءة لدى الفرق العاملة.

التعاون الدولي

يحظى الصليب الأحمر اللبناني بعلاقات قوية مع المنظمات الدولية، أبرزها:

• اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC): شريك أساسي في الاستجابة في مناطق النزاع ودعم الخدمات الطبية.

• الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر (IFRC): يوفر الدعم اللوجستي، المالي، والتقني في حالات الطوارئ والكوارث.

• جمعيات وطنية أخرى: مثل الصليب الأحمر الألماني، النرويجي، السويسري، والهلال الأحمر القطري، الذين يشاركون في مشاريع تنموية وإغاثية داخل لبنان.

إنجازات بارزة

من أبرز الإنجازات التي حققها الصليب الأحمر اللبناني:

• تأسيس أول مركز إسعاف في بيروت عام 1946

• التغطية الكاملة لكافة الأراضي اللبنانية بخدمة إسعاف مجانية على مدار الساعة

• إنشاء نظام مركزي متطور لإدارة نداءات الطوارئ

• تطوير نظام معلومات خاص بإدارة وحدات الدم

• الاستجابة السريعة والمنظمة لأكبر الأزمات الوطنية في العقود الأخيرة

آفاق المستقبل

يسعى الصليب الأحمر اللبناني إلى تعزيز استدامته وتوسيع خدماته بما يتلاءم مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في لبنان. وتتضمن خطته الاستراتيجية:

• تطوير البنية التحتية الرقمية

• تعزيز التبرعات المحلية والدولية

• إطلاق مبادرات مجتمعية جديدة

• تقوية البرامج التدريبية والتوعوية

• إشراك الشباب بشكل أوسع في الإدارة والتنفيذ

الخلاصة

يمثل الصليب الأحمر اللبناني نموذجاً حياً للعمل الإنساني المتفاني في ظروف استثنائية. إن استمرارية هذه الجمعية الوطنية الرائدة تعتمد على استدامة الدعم الشعبي والدولي، وعلى التزام المتطوعين الذين يشكلون جوهر رسالتها الإنسانية. وقد أثبت التاريخ أن هذه المؤسسة ليست مجرد مرفق إغاثي، بل ركيزة أساسية من ركائز الصمود المجتمعي في لبنان.

المراجع

1. الموقع الرسمي للصليب الأحمر اللبناني: https://www.redcross.org.lb

2. الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر: https://www.ifrc.org